التضليل المميت: نظريات المؤامرة حول سوريا وآثارها

رغم أن جرائم النظام السوري موثَّقة أكثر من جرائم أي نظام دموي آخر في أي وقت، إلا أن الأكاذيب والإنكار والتشكيك في روايات الناجين والناجيات السوريات أمورٌ شائعةٌ على نطاق واسع جداً، وهي تترك أثراً مباشراً على الضحايا وعائلاتهم وعموم السوريين، ولكن أيضاً على المسارات السياسية والأوضاع الفعلية على الأرض.

وقد عمل فريق حملة من أجل سوريا (The Syria Campaign) طوال شهور لإنجاز بحث استقصائي بهذا الشأن، يرصد الهجمات الالكترونية وحملات نشر المعلومات المضلّلة ونظريات المؤامرة بشأن سوريا منذ العام 2015، ويستقصي مصادرها وآليات انتشارها وآثارها الواقعية. وفي سبيل إنجاز هذا البحث، طلب فريق الحملة من معهد الحوار الاستراتيجي العمل على «بحث لدراسة زوايا الإنترنت المظلمة التي تتشارك بث المعلومات المضللة حول سوريا، وكيفية تأثيرها على العالم الحقيقي». وهكذا فإنه منذ كانون الأول (ديسمبر) 2021 وحتى نيسان (أبريل) 2022، تمكّنَ المعهد من تحليل عشرات آلاف المنشورات باللغة الإنكليزية على تويتر وفيسبوك وإنستغرام، والتي استهدفت الناشطين/ات والمنظمات السورية بروايات مضلِّلة منذ العام 2015 ولغاية العام 2021. وبالنتيجة، استطاع معهد الحوار الاستراتيجي وفريق حملة من أجل سوريا تحديد 28 جِهة ومنظمة وشخصية من المساهمين في نشر معلومات مُضلِّلة حول النزاع السوري.

قام الفريق البحثي بتطوير واختبار قاموس لبعض الكلمات المفتاحية والصياغات اللغوية، وذلك بهدف فلترة المنشورات والحصول على تلك التي تحتوي معلومات مُزيَّفة أو مضلِّلة بشأن سوريا فقط. وبالنتيجة، تم العثور على 47 ألف تغريدة على منصة تويتر و817 منشوراً على منصة فيسبوك. ولأن حضور المنشورات المضلِّلة ونشاط العاملين على التضليل كان على تويتر أعلى منه بكثير على فيسبوك، فقد صبّ الفريق جهده التحليلي على تويتر بشكل أساسي.

ورغم أن الدراسة التحليلية تتناول منشورات بِدءاً من العام 2015 فقط، فإن البحث يشير إلى أن «النظام السوري استخدم الهجمات الإلكترونية وحملات التضليل منذ اندلاع الثورة، من خلال إنكاره لوجود أية مظاهرات وادعاءاته الكاذبة حول الثورة. غير أن العام 2015 شهد بداية التدخل الروسي في النزاع، وتزامنَ ذلك مع تكرار حملات التضليل وتصاعدها لتستهدف المدافعين/ات عن حقوق الإنسان وعمال الإغاثة على الخطوط الأولى».

بالإضافة إلى ذلك، أجرى الفريق البحثي تسعة وعشرين مقابلة، مع سوريين وسوريات استهدفهنّ التضليل بشكل متكرر ومع صنّاع سياسات حول الملف السوري وخبراء سياسة دوليين، وذلك بهدف «كشف الغطاء عن آثار التضليل على الأشخاص، وكذلك أثره على اتخاذ القرارات السياسية». وبنتيجة الدراسة التحليلية والمقابلات، توصّل فريق البحث إلى نتائج تتعلق بكيفية انتشار نظريات المؤامرة والمعلومات المزيّفة، وبأبرز نتائج عمليات التضليل الممنهجة تلك.

من أين يأتي التضليل وكيف ينتشر؟

في إحدى المقابلات التي أجراها فريق البحث، يقول فاروق حبيب، نائب رئيس منظمة الخوذ البيضاء (الدفاع المدني السوري): «بالنسبة لنا وفي البداية لم نستطع فهم ما يحدث. في الأيام الأولى وعندما شاهدنا المقابلة مع فانيسا بيلي، اعتقدنا بأن ما يحدث ناتجٌ عن حصولها على معلومات خاطئة، بل وأردنا التواصل معها لتوضيح الأمور، ولكن وبعد بحث بسيط، توصلّنا لنتيجة مفادها أن ما تفعله مقصود ومنظّم. إنه ليس نتيجة لحصولهم على معلومات خاطئة، بل هم يعرفون تماماً ما يقومون به».

كانت الصحفية فانيسا بيلي قد «وصفت لحظة لقائها بالأسد بأنها أكثر لحظات حياتها فخراً»، كما أن روسيا قدّمت نظريات المؤامرة التي تروج لها بيلي كأدلة في مجلس الأمن. في العام 2015، كانت معظم المنشورات المضلِّلة باللغة الإنكليزية، التي رصدها فريق البحث، تعود إلى بيلي، ولكن العام 2017 شهد مزيداً من الحسابات التي تنشر الرواية الروسية حتى تجاوزَ بعضها نشاط بيلي في سنوات لاحقة، ويقول البحث إن هذه الحسابات نشطة للغاية، وهي «تعيد تدوير هذه المنشورات، المرة تلو الأخرى، على شتى منصات التواصل».

بمتابعة الفريق لهذه الحسابات، تبيّن أن بعض أصحابها تعاونوا مع إعلام النظام لتنظيم رحلات إلى مناطق سيطرت عليها قوات النظام أو القوات الروسية، وذلك «للعمل على نشر روايتهم للأحداث. ووصلَ بهم الأمر إلى الكتابة عن وجود مصانع للأسلحة الكيميائية لدى المعارضة، الأمر الذي ثبت لاحقاً بأن لا أساس له من الصحة»، متجاهلين أنّ «هناك مخزوناً هائلاً من الدلائل والقرائن على استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية لأكثر من 300 مرة منذ بداية النزاع»، بما فيها هجمات قاتلة بغاز السارين.

يخلص البحث إلى أنه «على الرغم من الفيديوهات الكثيرة والوثائق وشهود العيان على الجرائم التي ارتكبها النظام السوري، استطاعت نظريات المؤامرة حشد بعض الدعم»، كما يشير أيضاً إلى مشاهير أعادوا بثّ نظريات المؤامرة حول منظمة الخوذ البيضاء، من أبرزهم روجر ووترز من فرقة بينك فلويد الشهيرة، الذي كانت بعض منشوراته من أكثر المنشورات المضلِّلة مشاركةً على فيسبوك، وادّعى في أحدها أن «الخوذ البيضاء قتلوا على الغالب 34 امرأة وطفلاً لاستخدامهم كديكور للمشهد خلال ذاك اليوم المأساوي في دوما».

بلغَ عدد متابعي الحسابات التي رصدها البحث نحو ثلاثة ملايين متابع، أعاد كثيرون منهم نشر التغريدات على نطاق واسع. وقد تم تحديد أن 19 ألفاً من التغريدات الـ 47 ألفاً المرصودة هي تغريدات أصلية، وأنه تمّت إعادة تغريدها لأكثر من 671 ألف مرة. وقد شاركت حسابات رسمية تابعة للحكومة الروسية بنشاط في صناعة ونشر المحتوى الكاذب، إذ تابعَ الباحثون بعض هذه الحسابات ووجدوا أنها «لعبت دوراً هاماً خلال ذروة التضليل في أعقاب الهجمات الكيميائية على دوما في نيسان (أبريل) 2018»، إذ «تمت إعادة نشر تغريدات هذه الحسابات الثلاث لأكثر من 13 ألف مرة في شهر نيسان (أبريل) فقط».

وقد وجد البحث التحليلي بحسب الكلمات المفتاحية أن الروايات المزيّفة الأكثر تكراراً في التغريدات والمنشورات المرصودة هي: «1- ادّعاءات كاذبة حول عمل منظمة الخوذ البيضاء التي تعمل على إنقاذ حياة المدنيين في سوريا. 2- إنكار أو تشويه الحقائق حول استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية. 3- الهجمات على استنتاجات وخلاصات تقارير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سوريا».

نتائج التضليل على أرض الواقع

تَرى مقاربةٌ أساسيةٌ خلصَ إليها فريق البحث أن لهذا التضليل نتائجَ على أرض الواقع، تؤثّر بشكل مباشر على حياة ومصير آلاف مؤلّفة من البشر، وقد عمل الفريق على تكثيف هذه الخلاصات في نتائج أساسية، لعلّ من أبرزها أن «الأكاذيب تُكلّف الناس حياتهم»، إذ يبيّنُ البحث أن أكثر من 21 ألف تغريدة قد تم تصميمها للإضرار بالدفاع المدني السوري وتشويه سمعته، وكانت الأكاذيب الأكثر شيوعاً هي وصف عناصر الدفاع المدني الذين ينقذون الأرواح بأنهم «إرهابيون»، وهي «محاولات لتبرير استهدافهم المتعمّد عبر الهجمات المزدوجة، عندما يُقدم الطيران الروسي أو طيران النظام على قصف منطقة معينة، ثم يعاود استهدافها عند وصول عمّال الإنقاذ. حتى يومنا هذا، تم توثيق استشهاد 296 متطوعاً لدى الخوذ البيضاء أثناء عملهم على الخطوط الأمامية».

من أبرز النتائج التي توصَّلَ إليها البحث أيضاً أن «الريبة والشكوك يوفّران غطاءً للتقاعس السياسي»، إذ أظهرت المقابلات التي أجراها الفريق مع صنّاع السياسات أن التضليل سَهّلَ على الحكومات التهرّب من مسؤوليتها: «استخدمَ المسؤولون الحكوميون روايات ونظريات المؤامرة الروسية لدعم مواقفهم وقراراتهم، التي أدّت إلى السماح باستمرار الفظائع الوحشية في سوريا دون أية مساءلة».

وفي نتيجة عنوانها «حملات الكراهية الإلكترونية: ملحٌ على الجرح»، يصف البحث الأثرَ المؤلم الذي تتسبب به حملات الكراهية والإنكار على المدافعين عن حقوق الإنسان والعاملين الإنسانيين والناجين والناجيات، فهي بالنسبة لهم «بمثابة عدم اكتراث وسخرية عديمة الرحمة ممّا عانوه، كما أنها إنكارٌ للوقائع والحقائق التي أدّت لتدمير حياة الكثير من الناس…. حيث الناجون والناجيات من التعذيب والهجمات الكيميائية وجرائم الحرب مضطرون لمواجهة الانتقادات وخطاب الكراهية بسبب روايتهم لقصصهم… وحتى بالنسبة لأولئك ممّن كانوا في غاية الخوف من الحديث بشكل علني خشيةً من ردة فعل المتصيّدين على شبكة الإنترنت، فإن التعاطي مع خطاب الكراهية والإنكار لجرائم الحرب الذي يشهدونه على وسائل التواصل الاجتماعي يكون مؤلماً للغاية. وصفَ السوريون/ات الذين تحدّثوا دون الكشف عن هوياتهم، كيف أن خوفهم من سرد قصصهم ومعاناتهم من الرقابة الذاتية التي فرضوها على أنفسهم لتجنّب تعريض أنفسهم أو عائلاتهم للخطر، أثّرَ بشكل كبير على صحتهم النفسية».

خلصت الدراسة أيضاً إلى أن «تبرير سياسات الحكومات المعادية للاجئين» إحدى النتائج الكارثية لعمليات التضليل، إذ يرصد البحث كيف «استفادت السياسات المعادية للاجئين من التضليل، حيث تُصدِّق الحكومات اليوم مزاعم الأسد وروسيا بأن سوريا أصبحت الآن آمنة ويمكن للاجئين العودة إلى بلادهم، على الرغم من الأدلة الصارخة بعكس ذلك».

تحدّثَت الدراسة أيضاً عن «إهدار موارد قيّمة»، ذلك أن معظم صنّاع السياسات الذين واللواتي تمّت مقابلتهم باستطاعتهم تمييز الروايات الروسية لدى رؤيتها فوراً، ولكنهم «يحتاجون للعمل بشكل شاق بغية شرح الحقيقة للناس». وأكدت غالبيتهم أنها «واجهت نظريات المؤامرة خلال أحد الاجتماعات أو خلال اللقاءات المفتوحة، وأنهم وجدوا أنفسهم بحاجة لمواجهة التضليل قبل الحديث حتى عن طروحاتهم السياسية».

«عرقلةُ الاستجابة الإنسانية» كانت أيضاً إحدى النتائج المباشرة، إذ يحاول أصحاب نظريات المؤامرة بشكل دائم استهداف الجهات الداعمة للعاملين/ات الإنسانيين، وعند حديث فريق البحث إلى الأطقم الطبية والمنظمات الإنسانية العاملة على الخطوط الأمامية، عبّروا جميعاً عن إحساسهم بـ «تأثير الاتهامات الكاذبة على حجم التبرعات، مما يؤثر فعلياً على عدد الأرواح التي يمكن إنقاذها». وبينت الدراسة أيضاً كيف أن «محو التاريخ وإنكار جرائم الحرب» و«الاستهزاء بالقانون الدولي والمؤسسات الدولية» و«تمهيد الطريق لما يحدث في أوكرانيا»، كانت كلّها نتائج ملموسة للتضليل بشأن القضية السورية. ويبدو لافتاً وبالغ الأهمية أن الدراسة تحدثت عن «الصمود في مواجهة التضليل» بوصفه واحداً من النتائج البارزة، إذ «على الرغم من كل الأضرار البالغة التي سببها التضليل في العالم الحقيقي، كان من الواضح من خلال مقابلاتنا مع العاملين/ات الإنسانيين والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان، أن كل ذلك قوّى من عزيمتهم لإنقاذ حياة الناس، وكذلك فضح جرائم الحرب المُرتكبة وإيصال الحقيقة».

بالاستناد إلى نتائج الدراسة، التي خلصت إلى أن التضليل يتسبب بإزهاق الأرواح وبمعاناة رهيبة على أرض الواقع، يُقدّم فريق البحث مجموعة من التوصيات الموجّهة إلى الحكومات والمنظمات الدولية، وإلى القائمين على منصّات النشر الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، وإلى منظمات المجتمع المدني، تدعو كلّها إلى مواجهة فعّالة للمعلومات الزائفة وخطاب الكراهية وللآثار المدمرة للتضليل ونظريات المؤامرة في القضية السورية، وتقترح بعض الوسائل للمساهمة في هذه المواجهة.

لعلّه لا يمكن إيقاف حملات التضليل ولا منع أصحابها من طرح أكاذيبهم، خاصة عندما تقف دولٌ وراء هذه الحملات، لكن ما يمكن القيام به هو الحدّ من انتشار المعلومات المُزيَّفة والحدّ من تأثيرها في الرأي العام وصنع السياسات، كما يمكن فضح مصادرها ودراستها منهجياً لمحاولة فهمها وتسهيل مواجهتها، على غرار الجهد المهمّ الذي قام به فريق هذا البحث الاستقصائي.